مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ١٨٤
القرآن، ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن، وهو الكتاب المخزون المكنون عند اللّه تعالى الذي منه نسخ كل كتاب، كما قال تعالى : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة : ٧٧، ٧٨] وقال تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج : ٢٢] وقال : وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف : ٤] وقال :
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد : ٣٩].
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل هاهنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات :
الاحتمال الأول : أن يقال : المراد من لفظة تِلْكَ الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة، فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن، وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يغيره كرور الدهر، فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة الر هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء.
الاحتمال الثاني : أن يقال : المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند اللّه.
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا : تِلْكَ إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال، وهو أن تِلْكَ يشار بها إلى الغائب، وآيات هذه السورة حاضرة، فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ تِلْكَ.
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى : الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة : ١، ٢].
الاحتمال الثالث والرابع : أن يقال : لفظ تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن، والمراد بها : هي آيات القرآن الحكيم، والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند اللّه تعالى، وفي الآية قولان آخران : أحدهما : أن يكون المراد من الْكِتابِ الْحَكِيمِ التوراة والإنجيل، والتقدير : أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى : أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة / والإنجيل، مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما كان عالما بالتوراة والإنجيل، فحصول هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص اللّه تعالى محمدا بإنزال الوحي عليه. والثاني :
وهو قول أبي مسلم : أن قوله : الر إشارة إلى حروف التهجي، فقوله : الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي فلو لا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم، دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالا.
المسألة الثانية : في وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه : الأول : أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. الثاني : أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به. قال الأعشى :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث : قال الأكثرون الْحَكِيمِ بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى : وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [البقرة : ٢١٣] فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها، وكالحاكم على أن محمدا صادق في دعوى النبوة، لأن المعجزة الكبرى