مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢١٢
فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر اللّه تعالى.
المسألة الثانية : مقتضى اللغة أن يقال : واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال : وَاطْمَأَنُّوا بِها.
والصفة الرابعة : قوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء اللّه تعالى بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال : أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : النيران على أقسام : النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق، صاعدا بالطبع، والإقرار به واجب، لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق.
القسم الثاني : النار الروحانية العقلية، وتقريره أن من أحب شيئا حبا شديدا ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه، فإنه يحترق قلبه وباطنه، وكل عاقل يقول : إن فلانا محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات، فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته، وهي أحوال هذا العالم، وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم، فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقة وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها، ولا معرفة له بأحوالها، فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة، وتألم الروح فكذا هنا، أما لو كان نفورا عن هذه الجسمانيات عارفا بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، عظيم الحب للّه، كان مثاله مثال من كان محبوسا في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة، ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء، كما قال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء : ٦٩] فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية.
المسألة الثانية : الباء في قوله : بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى : ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج : ١٠].
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩ إلى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)


الصفحة التالية
Icon