مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢١٣
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولا، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانيا، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وفي تفسيره وجوه :
الوجه الأول : أن النفس الإنسانية لها قوتان :
القوة النظرية : وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة اللَّه.
والقوة العملية : وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة اللَّه.
فقوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة اللَّه تعالى وقوله : وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة اللَّه تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.
الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية قال القفال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند اللَّه تعالى.
الوجه الثالث : الَّذِينَ آمَنُوا أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال : فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر : ٢] وأذنهم مشغولة بسماع كلام اللَّه تعالى كما قال : وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة : ٨٣] ولسانهم. مشغول بذكر اللَّه كما قال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الأحزاب : ٤١] وجوارحهم مشغولة بنور طاعة اللَّه كما قال : أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النمل : ٢٥].
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.
المرتبة الأولى : قوله : يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير قوله : يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ وجوه : الأول : أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه : أحدها : قوله تعالى :
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد : ١٢] وثانيها : ما
روي أنه عليه السلام قال :«إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار»
وثالثها : قال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها : وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس، فإن حصل هذا الخط / النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ باللَّه منه.
والتأويل الثاني : قال ابن الأنباري : إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم، كقوله تعالى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ


الصفحة التالية
Icon