مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٤٢
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
[في قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أمورا أربعة أولها : قوله : جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي / إلا بالمثل، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلا وذلك حسن، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات، فهو ظلم، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته تعالى اللَّه عن ذلك، هكذا قرره القاضي تفريعا على مذهبه.
وثانيها : قوله : وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وذلك كناية عن الهوان والتحقير، واعلم أن الكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات، فيكون شعوره بكونه ناقصا، سببا لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال. وثالثها : قوله : ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ واعلم أنه لا عاصم من اللَّه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من اللَّه من عاصم. ورابعها : قوله : كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال : وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس : ٢٦].
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد المذكور هاهنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس :
٣٩] المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس :
٤٠] المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.
المسألة الثانية : قوله : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ فيه وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على قوله :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [يونس : ٢٦] كأنه قيل : للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني : أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا يدل على أن حكم اللَّه في حق المحسنين ليس إلا بالفضل، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : المراد بقوله : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر، بدليل قوله تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران : ١٠٦] وكذلك قوله : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس : ٤٠- ٤٢] ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [يونس : ٢٨] والضمير في قوله :(هم) عائد إلى هؤلاء، ثم إنه تعالى


الصفحة التالية
Icon