مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٧٧
البعوضة، فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ : إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق اللَّه تعالى.
المسألة الثانية : قال أكثر المحققين : إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محفل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وبقوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء : ١٠٣] وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال : بل يحصل فيه أنواع من الخوف، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
وأما قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ففيه ثلاثة أوجه : الأول : النصب بكونه صفة للأولياء. والثاني :
النصب على المدح. والثالث : الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.
وأما قوله تعالى : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
ففيه أقوال : الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة،
عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم : أنه قال :«البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له»
وعنه عليه الصلاة والسلام :«ذهبت النبوة وبقيت المبشرات»
وعنه عليه الصلاة والسلام :«الرؤيا الصالحة من اللَّه، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره»
وعنه صلى اللَّه عليه وسلم :«الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»
وعن ابن مسعود، والرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل، وحضور الشيطان، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة. وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة، فالمبشرة من اللَّه جزء من سبعين جزءا من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة اللَّه من شر رؤياي التي رأيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.
واعلم أنا إذا حملنا قوله : هُمُ الْبُشْرى
على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن ولي اللَّه هو الذي يكون مستغرق القلب / والروح بذكر اللَّه، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة اللَّه، ومن المعلوم أن معرفة اللَّه ونور جلال اللَّه لا يفيده إلا الحق والصدق، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم، فإنه إذا نام يبقى كذلك، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه، فلهذا السبب قال : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
على سبيل الحصر والتخصيص.
القول الثاني : في تفسير البشرى، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن
عن أبي ذر قال؟ قلت : يا رسول اللَّه إن الرجل يعمل العمل للَّه ويحبه الناس فقال :«تلك عاجل بشرى المؤمن».
واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى، وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره، وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال، صار محبوبا لكل أحد، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة اللَّه، مستغرق اللسان بذكر اللَّه، مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية اللَّه، فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب، صارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه، وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر، كانت هذه المحبة أقوى، وأيضا فنور معرفة اللَّه مخدوم بالذات، ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوما بالطبع ألا


الصفحة التالية
Icon