مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٧٨
ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان، ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة.
والقول الثالث : في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى : تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت : ٣٠] وأما البشرى في الآخرة فسلام.
الملائكة عليهم كما قال تعالى : وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد : ٢٣، ٢٤] وسلام اللَّه عليهم كما قال : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس : ٥٨] ويندرج في هذا الباب ما ذكره اللَّه في هذا الكتاب الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات.
والقول الرابع : إن ذلك عبارة عما بشر اللَّه عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه ودليله قوله : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التوبة : ٢١].
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة، فيكون الكل داخلا فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله :
فِي الْآخِرَةِ
ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء اللَّه وشرح أحوالهم / قال تعالى : تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
والمراد أنه لا خلف فيها، والكلمة والقول سواء ونظيره قوله : ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق : ٢٩] وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد اللَّه بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله : يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ ثم بين تعالى أن : لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وهو كقوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان : ٢٠] ثم قال القاضي : قوله : تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديما ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم اللَّه تعالى لا يكون قديما وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٥ إلى ٦٦]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
[في قوله تعالى وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ] اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها اللَّه تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب اللَّه عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها، عدلوا إلى طريق آخر، وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال، فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك، واللَّه سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.
واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده، لو جوز كونه مؤثرا في حاله، فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر، خرج من أن يكون سببا لحزنه ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس : ٦٢] فكذلك أزال حزن


الصفحة التالية
Icon