مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٧٩
الدنيا بقوله : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فإذا كان اللَّه تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصرا له ومعينا، ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له، فقد حصل الأمن وزال الخوف.
فإن قيل : فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفا حتى احتاج إلى الهجرة والهرب، ثم من بعد ذلك يخاف حالا بعد حال؟
قلنا : إن اللَّه تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقا والوقت ما كان معينا، فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت، فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت.
وأما قوله تعالى : إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال القاضي : إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون : إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك. أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. قال صاحب «الكشاف» : وقرأ أبو حيوة أن العزة بالفتح على حذف لام العلة يعني : لأن العزة على صريح التعليل.
البحث الثاني : فائدة إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ في هذا المقام أمور : الأول : المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي للَّه تعالى يعطي ما يشاء لعباده، والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم، فآمنه اللَّه تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء، ومثله قوله تعالى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : ٢١] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر : ٥١] الثاني : قال الأصم : المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها للَّه تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل : قوله : إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً كالمضادة لقوله تعالى : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون : ٨].
قلنا : لا مضادة، لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها باللَّه فهي للَّه.
أما قوله : هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك.
وأما قوله : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ففيه وجهان : الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس : ٥٥] وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك للَّه تعالى وملك له، وأما هاهنا فكلمة (من) مختصة بمن يعقل، فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك اللَّه وملكه فيكون مجموع الآيتين دالا على أن الكل ملكه وملكه. والثاني : أن المراد مَنْ فِي السَّماواتِ العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن / هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء للَّه تعالى.
ثم قال تعالى : وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وفي كلمة (ما) قولان :
الأول : أنه نفي وجحد، والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك اللَّه تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا للَّه تعالى. ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيدا في الدار وما كان فيها، فخاطب إنسانا في الدار ظنه زيدا فإنه لا يقال : إنه خاطب زيدا


الصفحة التالية
Icon