مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٨٨
قلنا : إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي، ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر، فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل، والغرض منه أن القوم قالوا لموسى : إن ما جئت به سحر، فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل، بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهم بأن اللَّه تعالى يحق الحق ويبطل الباطل، وقد أخبر اللَّه تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي.
المسألة الثانية : قوله : ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما هاهنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء، وخبرها السحر، قال الفراء : وإنما قال : السِّحْرُ بالألف واللام، لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا : لما جاءهم موسى هذا سحر، فقال لهم موسى : بل ما جئتم به السحر، فوجب دخول الألف واللام، لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة، يقول الرجل لغيره : لقيت رجلا فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له. وقرأ أبو عمرو : آلسحر بالاستفهام، وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء، وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل : أي شيء جئتم به ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع : آلسحر كقوله تعالى : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة : ١١٦] والسحر بدل من المبتدأ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت أعشرون بدلا من كم، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبرا عن المبدل منه خبرا عنه.
ثم قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يقويه ولا يكمله.
ثم قال : وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته. وقوله : بِكَلِماتِهِ أي بوعده موسى. وقيل بما سبق من قضائه وقدره، وفي كلمات اللَّه أبحاث غامضة عميقة عالية، وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب.
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
[في قوله تعالى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ] واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر، ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر، فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة، لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية. واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه :
الأول : أن الذرية هاهنا معناها تقليل العدد. قال ابن عباس : لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير، ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير


الصفحة التالية
Icon