مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٩٤
قلنا : فلما أخبر اللَّه عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر اللَّه كذبا وهو محال والمفضى إلى المحال محال.
وأما الوجه الثاني : وهو قولهم يحمل قوله لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول : إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. وأقول : إنه لما شرع في تفسيره / قوله تعالى : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء : ٧٩] ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ فَمِنْ نَفْسِكَ على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره هاهنا شر من ذلك، لأنه قلب النفي إثباتا والإثبات نفيا وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار، فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن، فلعله تعالى إنما قال : أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة : ٤٣] على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها.
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال : رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى : مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء : ٤٧] والطمس هو المسخ. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما :
بلغنا أن الدراهم والدنانير، صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا، وجعل سكرهم حجارة.
ثم قال : وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان. قال الواحدي :
وهذا دليل على أن اللَّه تعالى يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال.
ثم قال : فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وفيه وجهان : أحدهما : أنه يجوز أن يكون معطوفا على قوله : لِيُضِلُّوا والتقدير : ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله : رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يكون اعتراضا. والثاني : يجوز أن يكون جوابا لقوله : وَاشْدُدْ والتقدير :
اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا، فإنها تستحق ذلك.
ثم قال تعالى : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وفيه وجهان : الأول : قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما : أن موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، فلذلك قال : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي أمين فهو أيضا داع، لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضا. الثاني : لا يبعد أن يكون كل واحد منهما ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال : إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله : وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر ذلك الدعاء أيضا.
وأما قوله : فَاسْتَقِيما يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة، والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث / نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا فلا تستعجلا، قال ابن جريج : إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
وأما قوله : وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ففيه بحثان :
البحث الأول : المعنى : لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، فربما أجاب اللَّه تعالى دعاء إنسان في مطلوبه، إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر، والاستعجال لا


الصفحة التالية
Icon