مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٢١
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة هاهنا بالنبوة أيضا وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة هاهنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة. أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد. وأما سعادات الآخرة : فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة اللَّه تعالى. وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكد هذا بأمور : الأول : أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان. وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة، والثاني : قوله : كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال :
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولا به في حق أولاده. وأيضا أن يوسف عليه السلام قال : إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وكان تأويله أحد عشر نفسا لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلا.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟
قلنا : ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
القول الثاني : أن المراد من قوله : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خلاصه من المحن، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحاق عليهما السلام هو إنعام اللَّه تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذبح.
والقول الثالث : أن إتمام النعمة هو وصل نعمة اللَّه عليه في الدنيا بنعمة الآخرة بأن / جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.
واعلم أن القول الصحيح هو الأول، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله : إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فقوله : عَلِيمٌ إشارة إلى قوله : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : ١٢٤] وقوله :
حَكِيمٌ إشارة إلى أن اللَّه تعالى مقدس عن السفه والعبث، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعا بصحتها أم لا؟ فإن كان قاطعا بصحتها، فكيف حزن على يوسف عليه السلام، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله، وكيف خاف عليه من


الصفحة التالية
Icon