مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٣٠
المسألة الثالثة : قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذبا للمبالغة قالوا : والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال : ماء سكب، أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله :
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك : ٣٠] ورجل عدل وصوم، ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضا بهما فقالوا : للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم : ٦] وقوله : إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ : ٧] قال الشعبي : قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه، ولما شهد الشاهد قال : إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف : ٢٦] ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيرا، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً.
قال ابن عباس : معناه : بل زينت لكم أنفسكم أمرا. والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري : كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره.
وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب «الكشاف» : سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : بَلْ رد لقولهم : فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ كأنه قال : ليس كما تقولون : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ في شأنه أَمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه : الأول : أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. والثاني :
أنه كان عالما بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف : وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يوسف : ٦] وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.
القول الثالث : قال سعيد بن جبير : لما جاءوا على قميصه بدم كذب، وما كان متخرقا، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وعن السدي أنه قال : إن يعقوب عليه السلام قال : إن هذا الذئب كان رحيما، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟
وقيل : إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص، فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم. ثم قال يعقوب عليه السلام : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من قال : إنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير : فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطرب : معناه : فصبري صبر جميل. وقال الفراء : فهو صبر جميل.
المسألة الثانية : كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة، فقيل له : ما هذا؟ فقال طول الزمان وكثرة الأحزان : فأوحى اللَّه تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وروي عن عائشة رضي اللَّه عنها في قصة الإفك أنها قالت : واللَّه لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فأنزل اللَّه عز وجل في عذرها ما أنزل.


الصفحة التالية
Icon