مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٥٦
عَلَّمَنِي رَبِّي
وفي قوله : وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى : ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من اللَّه وعلم حصل بتعليم اللَّه.
ثم قال : إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : في قوله : إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه : الأول : أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه. والثاني : وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية : تكرير لفظ (هم) في قوله : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله : إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إشارة إلى علم المبدأ. وقوله : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى : وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وفيه سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذا الكلام.
الجواب : أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء اللَّه ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة / أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضا فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمرا مشهورا في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وتأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني : لما كان نبيا فكيف قال : إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لا بد وأن يكون مختصا بشريعة نفسه.
قلنا : لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضا لعله كان رسولا من عند اللَّه، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث : لم قال : ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وحال كل المكلفين كذلك؟
والجواب : ليس المراد بقوله : ما كانَ لَنا أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله : ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم : ٣٥].
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : مِنْ شَيْ ءٍ.
الجواب : أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد


الصفحة التالية
Icon