مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٧٣
كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا : وإنما يكون غنيا عن القبيح إذا كان قادرا، وإذا كان منزها عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكينا أمينا نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف : اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض، والمراد منه المعهود السابق.
روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في هذه الآية أنه قال :«رحم اللَّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة»
وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل اللَّه عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر اللَّه تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى اللَّه تعالى أولى.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة :«لا تسأل الإمارة»
وأيضا فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر، وأيضا لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الإمارة في الحال، وأيضا لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضا كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله : إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ مع أنه تعالى يقول : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم : ٣٢] وأيضا فما الفائدة في قوله : إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وأيضا لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول : إني حفيظ عليم إن شاء اللَّه بدليل قوله تعالى : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف :
٢٣، ٢٤] فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول : الأصل في جواب هذه / المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان، إنما قلنا : إن ذلك التصرف كان واجبا عليه لوجوه : الأول : أنه كان رسولا حقا من اللَّه تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، والثاني : وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق، والثالث : أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه عليه السلام كان مكلفا برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجبا عليه ولما كان واجبا سقطت الأسئلة بالكلية، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي : كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة، وأقول : لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء، وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه : الأول : لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفا بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك