مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٧٤
وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالما بأنه يفي بهذا الأمر، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى : فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم : ٣٢] المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أما إذا كان الإنسان عالما بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه واللَّه أعلم.
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم؟
قلنا : إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها، ويقال : حفيظ بجميع مصالح الناس، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال : حفيظ لوجوه أياديك وكرمك، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٦ إلى ٥٧]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
[في قوله تعالى وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ] فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك اللَّه عن الملك أنه قال : قد فعلت، بل اللَّه سبحانه قال : وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين اللَّه له في الأرض يدل على أن الملك قد أجابه إلى ما سأل. وأقول : ما قالوه حسن، إلا أن هاهنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذا التساوي امتنع حصول القبول، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه اللَّه تعالى، إذا خلق اللَّه تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق اللَّه تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك اللَّه تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.
المسألة الثانية :
روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في إصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي


الصفحة التالية
Icon