مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٦٩
الخلق، وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه واللّه أعلم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي :(ينزل) بالياء وكسر الزاي وتشديدها، والملائكة بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها، والأول من التفعيل، والثاني من الأفعال، وهما لغتان :
المسألة الثانية : روي عن عطاء عن ابن عباس قال : يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي : وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدما جائز كقوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ.
[نوح : ١] وإِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف : ٢]. وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر : ٩] وفي حق الناس كقوله : الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران : ١٧٣] وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله : بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه قولان :
القول الأول : أن المراد من الروح الوحي وهو كلام اللّه ونظيره قوله تعالى : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى : ٥٢] وقوله : يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر : ١٥] قال أهل التحقيق : الجسد موات كثيف مظلم، فإذا اتصل به الروح صار حيا لطيفا نورانيا. فظهرت آثار النور في الحواس الخمس، ثم الروح أيضا ظلمانية جاهلة، فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية، كما قال تعالى، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النحل : ٧٨] ثم العقل أيضا ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات اللّه تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد، وعالم الدنيا والآخرة، ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن.
إذا عرفت هذا فنقول : القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية، والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل، والعقل به يكمل جوهر الروح، والروح به يكمل حال الجسد، وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن، لأن به يحصل الخلاص / من رقدة الجهالة، ونوم الغفلة، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : ١٩٣، ١٩٤] وعلى عيسى عليه السلام في قوله : رَوْحِ اللَّهِ [يوسف : ٨٧] وإنما حسن هذا الإطلاق، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى.
والقول الثاني : في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح هاهنا جبريل عليه السلام، والباء في قوله :
بِالرُّوحِ بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه، فيكون المعنى : ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل، والأول أقرب، وتقرير هذا الوجه : أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم جبريل وحده، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجا من الملائكة، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة، وكان ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم تارة ملك الجبال. وتارة ملك البحار. وتارة رضوان. وتارة غيرهم. وقوله : مِنْ أَمْرِهِ يعني أن ذلك التنزيل


الصفحة التالية
Icon