مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٧٩
وأجاب الجبائي بأن المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان، لأنه مقدور جميع المكلفين.
وأجاب بعضهم فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب، واللّه أعلم.
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مرارا وأطوارا مع الجواب فلا فائدة في الإعادة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ إلى ١١]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
[في قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ] اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات، فلما قرر اللّه تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مرارا، والحاصل : أن ماء المطر قسمان : أحدهما : هو الذي جعله اللّه تعالى شرابا لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله : لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وقد بين اللّه تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال :
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء : ٣٠].
فإن قيل : أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض؟
أجاب القاضي : بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول : ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله : لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول : لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون : ١٨] ولا يمتنع أيضا في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله اللّه سببا لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله : وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ إلى آخر الآية، وفيه مباحث :
البحث الأول : ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وهاهنا قولان :
القول الأول : قال الزجاج : كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد :


الصفحة التالية
Icon