مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٧٤
والشبهة الثالثة : أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق، إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة، وأنها ليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله : فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع واللّه أعلم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١١ إلى ١٢]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة، حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها.
أما الشبهة الأولى : وهي قولهم : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فجوابه : أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك، لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن اللّه به على من يشاء من عباده، فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة.
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق، وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا : إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية، فإنه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة له. وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة، فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من اللّه تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده، ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من اللّه تعالى والعطية منه، والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق، والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم : وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة، لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص، كما قال تعالى :
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : ١٢٤].
وأما الشبهة الثانية : وهي قولهم : إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقا، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم، فجوابه : عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من اللّه تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة : وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية.
فالجواب عنها : قوله تعالى : وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وشرح هذا الجواب أن


الصفحة التالية
Icon