مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٧٥
المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها للّه تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية.
ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام : لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على اللّه واعتمادنا على فضل اللّه ولعل اللّه سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي، فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزنا في حالتي السراء والضراء وطوري الشدة والرخاء، فلهذا السبب توكلوا على اللّه وعولوا على فضل اللّه وقطعوا أطماعهم عما سوى اللّه، والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم : وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية، والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على اللّه، بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه، فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكا له أو ملكا أو روحا أو جسما، وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم، ثم قالوا :
وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بد وأن يصير غالبا قاهرا، والباطل لا بد وأن يصير مغلوبا مقهورا، ثم أعادوا قولهم : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على اللّه في قوله / وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا، ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه اللّه فصلا حسنا وحاصله : أن الإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا أو خاليا عن الوصفين، أما الناقص فإما أن يكون ناقصا في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره، وإما أن يكون ناقصا ويكون مع ذلك ساعيا في تنقيص حال الغير، فالأول : هو الضال، والثاني : هو الضال المضل، وأما الكامل فإما أن يكون كاملا ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء، وإما أن يكون كاملا ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك
قال عليه السلام :«علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية، لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان، فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل، والنبي هو الإنسان الكامل المكمل، ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة، وذلك مثل روح محمد صلّى اللّه عليه وسلم، فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءا من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد، ومن التجسيم إلى


الصفحة التالية
Icon