مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٧٨
واعلم أنه تعالى ذكر أولا قوله : ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي ثم عطف عليه قوله : وَخافَ وَعِيدِ فهذا يقتضي أن يكون الخوف من اللّه تعالى مغايرا للخوف من وعيد اللّه، ونظيره : أن حب اللّه تعالى مغاير لحب ثواب اللّه، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق.
ثم قال : وَاسْتَفْتَحُوا وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : للاستفتاح هاهنا معنيان : أحدهما : طلب الفتح بالنصرة، فقوله : وَاسْتَفْتَحُوا أي واستنصروا اللّه على أعدائهم، فهو كقوله : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال : ١٩]. والثاني : الفتح الحكم والقضاء، فقول ربنا : وَاسْتَفْتَحُوا أي واستحكموا اللّه وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف : ٨٩].
إذا عرفت هذا فنقول : كلا القولين ذكره المفسرون. أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل، وذلك لأنهم استنصروا اللّه ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم : قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح : ٢٦] وقال موسى : رَبَّنَا اطْمِسْ [يونس : ٨٨] الآية. وقال لوط : رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت : ٣٠] وأما على القول الثالث : وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا، ومنه قول كفار قريش : اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال : ٣٢]. وكقول آخرين ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت : ٢٩].
المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف» : قوله : وَاسْتَفْتَحُوا معطوف على قوله : فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وقرئ واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله : لَنُهْلِكَنَّ أي أوحى إليهم ربهم، وقال لهم : لَنُهْلِكَنَّ وقال لهم اسْتَفْتَحُوا.
ثم قال تعالى : وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن قلنا : المستفتحون هم الرسل، كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وهم قومهم، وإن قلنا : المستفتحون هم الكفرة، فكان المعنى : أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل.
المسألة الثانية : الجبار هاهنا المتكبر على طاعة اللّه تعالى وعبادته. ومنه قوله تعالى : وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
[مريم : ١٤] قال أبو عبيدة عن الأحمر : يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة، وحكى الزجاج : الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والتجبار والجبرياء. قال الواحدي : فهي ثمان لغات في مصدر الجبار، وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأمرها أمرا فأبت عليه فقال :«دعوها فإنها جبارة»
أي مستكبرة، وأما العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه، قال النضر بن شميل : العنود الخلاف والتباعد والترك، وقال غيره : أصله من العند وهو الناحية يقال : فلان يمشي عندا، أي ناحية، فمعنى عاند وعند. أخذ في ناحية معرضا، وعاند فلان فلانا إذا جانبه وكان منه على ناحية.


الصفحة التالية
Icon