مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٧٩
إذا عرفت هذا فنقول : كونه جبارا متكبرا إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيدا إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق، وهو كونه مجانبا عن الحق منحرفا عنه، ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق، كان خائبا عن كل الخيرات خاسرا عن جميع أقسام السعادات.
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جبارا عنيدا، وصف كيفية عذابه بأمور : الأول :
قوله : مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وفيه إشكال وهو أن المراد : أمامه جهنم، فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام؟
وأجابوا عنه من وجوه : الأول : أن لفظ «وراء» اسم لما يوارى عنك، وقدام وخلف متوار عنك، فصح إطلاق لفظ «وراء» على كل واحد منهما. قال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضا : الموت وراء كل أحد. الثاني : قال أبو عبيدة وابن السكيت : الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام، والسبب فيه أن كل ما كان خلفا فإنه يجوز أن ينقلب قداما وبالعكس، فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام، ومنه قوله تعالى : وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ [الكهف : ٧٩] أي أمامهم، / ويقال :
الموت من وراء الإنسان. الثاني : قال ابن الأنباري «وراء» بمعنى بعد. قال الشاعر :
وليس وراء الله للمرء مذهب أي وليس بعد اللّه مذهب.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله : وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
ثم قال : مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم.
النوع الثاني : مما ذكره اللّه تعالى من أحوال هذا الكافر قوله : وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وفيه سؤالات :
السؤال الأول : علام عطف وَيُسْقى.
الجواب : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد.
السؤال الثاني : عذاب أهل النار من وجوه كثيرة، فلم خص هذه الحالة بالذكر؟
الجواب : يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله : وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ.
السؤال الثالث : ما وجه قوله : مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ.
الجواب : أنه عطف بيان والتقدير : أنه لما قال : وَيُسْقى مِنْ ماءٍ فكأنه قيل : وما ذلك الماء فقال :
صَدِيدٍ والصديد ما يسيل جلود أهل النار. وقيل : التقدير ويسقى من ماء كالصديد. وذلك بأن يخلق اللّه تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة، وهو أيضا يكون في نفسه صديدا، لأن كراهته تصد


الصفحة التالية
Icon