مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٩٢
العالية، قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي، وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث إنها من المولى، وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال، ولذلك قال بعض المحققين : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني، ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول، فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره اللّه تعالى في هذا الكتاب مثال هاد إلى عالم القدس، وحضرة الجلال، وسرادقات الكبرياء، فنسأل اللّه تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب، وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاما لا بأس به، فقال : إنما مثل اللّه سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة، لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة، إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ، وأصل قائم، وأغصان عالية. كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : معرفة في القلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : في نصب قوله : كَلِمَةً طَيِّبَةً وجهان : الأول : أنه منصوب بمضمر والتقدير : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا. الثاني : قال ويجوز أن ينتصب مثلا. وكلمة بضرب، أي ضرب كلمة طيبة مثلا بمعنى جعلها مثلا، وقوله : كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : هي كشجرة طيبة. الثالث : قال صاحب «حل العقد» أظن أن الأوجه أن يجعل قوله :
كَلِمَةً عطف بيان، والكاف في قوله : كَشَجَرَةٍ في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة.
المسألة الثالثة : قال ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا اللّه، والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين. وقال صاحب «الكشاف» : إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان، وأراد بشجرة طيبة الثمرة، إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها، أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت، وفرعها أي أعلاها في السماء، والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء تُؤْتِي أي هذه الشجرة أُكُلَها أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين، واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر، لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، جاء رجل إلى ابن عباس فقال : نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين، فقال : الحين ستة أشهر، وتلا قوله تعالى : تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ وقال مجاهد وابن زيد : سنة، لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة. وقال سعيد بن المسيب : شهران، لأن مدة إطعام النخلة شهران. وقال الزجاج : جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت، والمراد من قوله : تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلا أو نهارا أو شتاء أو صيفا. قالوا :
والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة. وأقول :
هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية، إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود، لأنه تعالى وصف هذه الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه، سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن، لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب، واللّه أعلم بالأمور.
ثم قال : وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام