مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٥٧
من البعض، ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه.
أما الجواب عن المعارضة الأولى : فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد- ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى- حكمة خفية.
وعن الثاني : أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.
وعن الثالث : أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة «حضرموت» فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز، فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.
وعن الرابع : أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا هاهنا.
وعن الخامس : أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسماً لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له.
وعن السادس : أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة / وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق : أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.
واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب : من أن المشركين قال بعضهم لبعض : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت : ٢٦] فكان إذا تكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه، رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران : أحدهما : أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني : إن العلماء قالوا : أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال : لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن اللّه تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي- وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة- فإن ذلك يكون جائزاً؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله :«أنه يكون هذياناً» قلنا : إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه


الصفحة التالية
Icon