مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٧٥
فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار. وثالثها : أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى : تَصْلى ناراً حامِيَةً [الغاشية : ٤] سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [المسد : ٣] وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً. ورابعها : قال صاحب «الكشاف» : الصلاة فعلة من «صلى» كالزكاة من «زكى» وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد، وأقول هاهنا بحثان :
الأول : أن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب «الكشاف» يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن يقال : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد اللّه تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر، وكان مراد اللّه تعالى منها تلك المعاني، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة، فلما كان ذلك باطلًا بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
الثاني : الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم، مختتمة بالتحليل، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل. لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة، لأنه الذي يقف الفلاح عليه، لأنه عليه السلام لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال واللّه لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«أفلح إن صدق».
المسألة الثامنة : الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة : ٨٢] أي حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم :
الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل، لأن اللّه تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [الرعد : ٢٢] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل، لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة، ويقول : اللهم ارزقني عقلًا أعيش به وليس العقل بمملوك، وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك.
وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسين البصري : الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا : قد رزقنا اللّه تعالى الأموال، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالًا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا : الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً، فحجة الأصحاب من وجهين : الأول : أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له


الصفحة التالية
Icon