مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٨٣
فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والإخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار، إذا عرفت هذا فنقول : احتجت المعتزلة بكل ما أخبر اللّه عن شيء ماض مثل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أو إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : ٩]، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : ١]، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح : ١] على أن كلام اللّه محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئاً آخر. قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلا إذا كان مسبوقاً بالخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً فيجب أن يكون محدثاً، أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين : الأول : أن / اللّه تعالى كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم اللّه تعالى، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن خبر اللّه تعالى في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر اللّه تعالى.
الثاني : أن اللّه تعالى قال : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح : ٢٧] فلما دخلوا المسجد لا بد وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله؟ أجاب المستدل أولًا عن السؤال الأول فقال : عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات، وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلًا لا علماً، وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم، وعلى هذا سقطت هذه المعارضة. وعن الثاني : أن خبر اللّه تعالى وكلامه أصوات مخصوصة، فقوله تعالى : لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ معناه أن اللّه تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد، فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا تكلم اللّه تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافاً بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلًا في الأزل وهذا هو المقصود، أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلًا في الأزل أو ما كان، فإن لم يكن حاصلًا في الأزل كان ذلك تصريحاً بالجهل. وذلك كفر، وإن قلنا إنه كان حاصلًا فزواله يقتضي زوال القديم، وذلك سد باب إثبات حدوث العالم واللّه أعلم.
المسألة الثالثة : قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر، لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن اللّه تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص، إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود، ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء، فإذا قال «إن الناس يؤذونني» فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين، وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان


الصفحة التالية
Icon