مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٨٨
كان كذلك لوجب أن لا يكون اللّه تعالى قادراً على شيء، لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع، والواجب لا قدرة له عليه، لأنه إذا كان واجب الوقوع، لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع، والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر، وأما الممتنع فلا قدرة عليه، فيلزم أن لا يكون اللّه تعالى قادراً على شيء أصلًا، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أن العلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده. وثانيها : أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فإن كان ممكناً علمه ممكناً وإن كان واجباً علمه واجباً، ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم، وقد بينا أنه محال. وثالثها : لو كان الخبر والعلم مانعاً لما كان العبد قادراً على شيء أصلًا، لأن الذي علم اللّه تعالى وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة عليه، والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدرة عليه، فوجب أن لا يكون العبد قادراً على شيء أصلًا، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن رمى إنسان إنساناً بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار : ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت؟ فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك.
ورابعها : لو كان العلم بالعدم مانعاً للوجود لكان أمر اللّه تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم، بأن يعدموا علمه، لأن إعدام ذات اللّه وصفاته غير معقول، والأمر به سفه وعبث، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعاً من الوجود. وخامسها : أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات / نظراً إلى ذاته وعينه، فوجب أن يعلمه اللّه تعالى من الممكنات الجائزات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلًا، وهو محال، وإذا علمه اللّه تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها ألبتة، فلو صار بسبب العلم واجباً لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال. وسادسها : أن الأمر بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضاً بكل أنواع السفه، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن، بل يجوز أن يكون كله كذباً وسفهاً، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان. وسابعها : أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف. والمزمن بالطيران في الهواء، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل :
لم لا تطير إلى فوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود، وثامنها : لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالًا بعد حال، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين.
وتاسعها : أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة، فوجب أن لا يكون اللّه تعالى قادراً مريداً مختاراً، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب. وعاشرها : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد، قال اللّه تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] وقال : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : ٧٨] وقال : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ


الصفحة التالية
Icon