مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٩٤
[الأنبياء : ١٠٠]. وعاشرها : ما حكوه عن الحسن البصري- وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي- أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند اللّه كما قال : أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة : ٢٢] وحينئذ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند اللّه فيبغضونه ويلعنونه، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة، لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كفاراً ملعوناً عند اللّه تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر. قالوا : والختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة / أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر. قالوا : وإنما خص القلب والسمع بذلك، لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب، ولهذا خصهما بالذكر. فإن قيل : فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة؟ قلنا لا، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته. أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلف ذلك فلا بد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع.
المسألة الثالثة : الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي : الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول : وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال : كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين : ١٤] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الأنعام : ٢٥] وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التوبة : ٨٧] بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء :
١٥٥] فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت : ٤] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس : ٧٠] إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النمل : ٨٠] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النحل : ٢١] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة : ١٠] والقسم الثاني : وردت دلالة على أنه لا مانع ألبتة وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء : ٩٤] فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف : ٢٩] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : ٧٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة : ٢٨] لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آل عمران : ٧١] والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض. أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال اللّه وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا : ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق


الصفحة التالية
Icon