مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣١٠
لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها : أن اللّه تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح اللّه من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ إلى قوله : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين : ٢٩- ٣٤] فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني : كيف ابتدأ قوله : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ الجواب : هو استئناف في غاية الجزالة والخفامة. وفيه أن اللّه تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضاً أن اللّه هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
السؤال الثالث : هل قيل : إن اللّه مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله : إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الجواب.
لأن «يستهزئ» يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت، وهذا كانت نكايات اللّه فيهم : أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة : ١٢٦] وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية يَحْذَرُ / الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة : ٦٤] الجواب الثاني : قوله تعالى : وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة : ١٥] قال صاحب «الكشاف» إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد. وقال بعضهم : مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنين : ٥٥] ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين : الأول : أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن (و نمدهم) وقراءة نافع (و إخوانهم يمدونهم في الغي) يدل على أنه من المدد دون المد. الثاني : أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له. قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه : أحدها : قوله تعالى :
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى اللّه تعالى.
وثانيها : أن اللّه تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلًا للّه تعالى فكيف يذمهم عليه.
وثالثها : لو كان فعلًا للّه تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً.
ورابعها : أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله :«في طغيانهم» ولو كان ذلك من اللّه لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله : وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف : ٢٠٢] إذا ثبت هذا فنقول :
التأويل من وجوه : أحدها : وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن اللّه تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور


الصفحة التالية
Icon