مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٢٤
الصانع المختار المتكلم، وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك فرع على ثبوت نبوته صلى اللّه عليه وسلم، والفقيه إنما يبحث عن أحكام اللّه، وذلك فرع على التوحيد والنبوة، فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول، والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم. وثالثها : أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده، فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة، وهما من أخس الأشياء، فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء. ورابعها : أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه، وقد يكون لقوة براهينه، وعلم الأصول مشتمل على الكل وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظراً إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب، وإن كان الطب أشرف منه نظراً إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة، وعلم الحساب أشرف منهما نظراً إلى أن براهين علم الحساب أقوى. أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات اللّه تعالى وصفاته وأفعاله، ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات، ولا شك أن ذلك أشرف الأمور، وأما الحاجة إليه فشديدة لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا، أما في الدين فشديدة لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة، ومن جهلها / استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين. وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر، إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم، وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيباً يقينياً وهذا هو النهاية في القوة فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم.
وخامسها : أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير، ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم، فوجب أن يكون أشرف العلوم. وسادسها : أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص : ١] وآمَنَ الرَّسُولُ [البقرة : ٢٨٥] وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة : ٢٢٢] وقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة : ٢٨٢] وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل. وسابعها : أن الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين، وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة اللّه تعالى وقدرته على ما قال : لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف : ١١١] فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل، ونشير إلى معاقد الدلائل : أما الذي يدل على وجود الصانع فالقرآن مملوء منه.
أولها : ما ذكر هاهنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم، وخلق السماء وخلق الأرض، وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض، وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض، فالمقصود منه ذلك، وأما الذي يدل على الصفات. أما العلم فقوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ثم أردفه بقوله : هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران : ٥، ٦] وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال وإتقانها على علم الصانع، وهاهنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالماً بالأشياء، وقال : أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك : ١٤] وهو عين تلك الدلالة وقال : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام : ٥٩] وذلك تنبيه على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات، لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر، فلولا كونه