مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٢٥
عالماً بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك، وأما صفة القدرة فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادراً مختاراً لا موجباً بالذات، وأما التنزيه فالذي يدل على أنه ليس بجسم، ولا في مكان قوله : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث، وإذا كان أحداً وجب أن لا يكون جسماً وإذا لم يكن جسماً لم يكن في المكان، وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا و[الأنبياء : ٢٢] قوله : إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء : ٤٢] وقوله : وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون : ٩١] وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله هاهنا : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة : ٢٣] وأما المعاد فقوله : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس : ٧٩] وأنت لو فتشت علم / الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها، أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها اللّه أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلًا مسلماً يقول ذلك ويرضى به.
وثامنها : أن اللّه تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة : ٣٠] كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح، والحكيم لا يفعل القبيح، فأجابهم اللّه تعالى بقوله : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ والمراد إني لما كنت عالماً بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم، ولا شك أن هذا هو المناظرة، وأما مناظرة اللّه تعالى مع إبليس فهي أيضاً ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر اللّه تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال، وأما نوح عليه السلام فقد حكى اللّه تعالى عن الكفار قولهم : يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود : ٣٢] ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة، فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء، وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات : أحدها :
مع نفسه وهو قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : ٧٦] وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها، ثم إن اللّه تعالى مدحه على ذلك فقال : وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الأنعام : ٨٣] وثانيها : حاله مع أبيه وهو قوله : يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم : ٤٢] وثالثها : حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل، أما بالقول فقوله : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء : ٥٢] وأما بالفعل فقوله :
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء : ٥٨]. ورابعها : حاله مع ملك زمانه في قوله :
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة : ٢٥٨] إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليس إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ، وأما بحثه في المعاد فقال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة : ٢٦] إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة، أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن اللّه تعالى حكى في سوطه طه : قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه : ٤٩، ٥٠] وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء : ٧٨] وقال في سورة الشعراء رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ


الصفحة التالية
Icon