مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٢٦
الْأَوَّلِينَ
[الشعراء : ٢٦] وهذا هو الذي قاله إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء : ٢٨] وهذا هو الذي قال إبراهيم عليه السلام فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة : ٢٥٨] فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين، وأما استدلال موسى على النبوة / بالمعجزة ففي قوله : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء : ٣٠] وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل، فإن القرآن مملوء منه ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار فالأول : الدهرية الذين كانوا يقولون : وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية : ٢٤] واللّه تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل. والثاني : الذين ينكرون القادر المختار، واللّه تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك، وذلك يدل على وجود القادر. والثالث : الذين أثبتوا شريكاً مع اللّه تعالى، وذلك الشريك إما أن يكون علوياً أو سفلياً، أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم، واللّه تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح وعبدة الأوثان قالوا : بإلاهية الأوثان، واللّه تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم. الرابع : الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان : أحدهما : الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى اللّه عنهم أنهم قالوا : أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : ٩٤].
والثاني : الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، والقرآن مملوء من الرد عليهم، ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب اللّه بقوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً [البقرة : ٢٦] وتارة بالتماس سائر المعجزات كقوله : وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء : ٩٠] وتارة بأن هذا القرآن نزل نجماً نجماً وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله : كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان : ٣٢].
الخامس : الذين نازعوا في الحشر والنشر، واللّه تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعاً كثيرة من الدلائل. السادس : الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه، فأجاب اللّه عنه بقوله : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء : ٧] وتارة بأن الحق هو الجبر، وأنه ينافي صحة التكليف، وأجاب اللّه تعالى عنه بأنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء : ٢٣] وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافراً أو جاهلًا. المقام الثاني : في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات، ويدل عليه المعقول والمنقول. أما المعقول : فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي، فأما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار، وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر، وإما أن لا يجوز التقليد أصلًا وهو المطلوب، فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية. وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار أما الآيات. فأحدها : قوله : ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل : ١٢٥] ولا شك أن المراد بقوله بالحكمة أي بالبرهان والحجة، فكانت الدعوة / بالحجة والبرهان إلى اللّه تعالى مأموراً بها، وقوله : وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ليس المراد منه المجادلة في فروع