مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٦٨
به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد اللّه باختيار نفسه، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقاً وناقضاً للعهد مغاير لفسقه ونقضه، وحادي عاشرها : أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه، إما بكوه ابتلاءً وامتحاناً، أو بكونه عقوبة ونكالًا، فقال في الابتلاء : وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي امتحاناً إلى أن قال : كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر : ٣١] فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلًا متشابهاً لا يعرف حقيقة الغرض فيه، والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران : ٧] وأما العقوبة والنكال فكقوله : إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر : ٧١] إلى أن قال : كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ فبين أن إضلاله لا يعدو أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسراً بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسراً بغيرهما دفعاً للاشتراك، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على اللّه تعالى فوجب المصير إلى التأويل، والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات.
أحدها : أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء أنه أضله قال تعالى في / حق الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم : ٣٦] أي ضلوا بهن، وقال :
وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نوح : ٢٣، ٢٤] أي ضل كثير من الناس بهم وقال : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [المائدة : ٦٤] وقال : فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح : ٦] أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فراراً وقال : فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي [المؤمنون : ١١٠] وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم اللّه ويدعونهم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سبباً لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة : ١٢٤، ١٢٥] فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيماناً، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفراً، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضاً، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى اللّه تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر : وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر : ٣١] فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده
ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله : ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [المدثر : ٣١] فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاً، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضاً. أمرضني الحب أي مرضت به : ويقال قد أفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به، وقال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon