مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٧١
تلك البديهيات لم يمكن الاستدلال بتلك البديهيات على تلك النظريات، فلم تكن تلك الاعتقادات الحاصلة في تلك النظريات علوماً، بل لا تكون إلا اعتقاداً حاصلًا للمقلد وليس كلامنا فيه، فثبت أن كلامكم في عدم إسناد الاهتداء والضلال إلى اللّه / تعالى معارض بهذه الوجوه العقلية القاطعة التي لا جواب عنها. ولنتكلم الآن فيما ذكروه من التأويلات أما التأويل الأول فساقط لأن إنزال هذه المتشابهات هل لها أثر في تحريك الدواعي أو ليس لها أثر في ذلك؟ فإن كان الأول وجب على قولكم أن يقبح لوجهين، الأول : أنا قد دللنا في تفسير قوله : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة : ٧] على أنه متى حصل الرجحان فلا بد وأن يحصل الوجوب وأنه ليس بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض واسطة، فإذا أثر إنزال هذه المتشابهات في الترجيح وثبت أنه متى حصل الترجيح فقد حصل الوجوب فحينئذ جاء الجبر وبطل ما قلتموه.
الثاني : هب أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب إلا أن المكلف ينبغي أن يكون مزاح العذر والعلة وإنزال هذه المتشابهات عليه مع أن لها أثراً في ترجيح جانب الضلال على جانب الاهتداء كالعذر للمكلف في عدم الإقدام على الطاعة فوجب أن يقبح ذلك من اللّه تعالى، وأما إن لم يكن لذلك أثر في إقدامهم على ترجيح جانب الضلال على جانب بالاهتداء كانت نسبة هذه المتشابهات إلى ضلالهم كصرير الباب ونعيق الغراب فكما أن ضلالهم لا ينسب إلى هذه الأمور الأجنبية كذلك وجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما، وحينئذ يبطل تأويلهم، أما التأويل الثاني وهو التسمية والحكم فهو وإن كان في غاية البعد لكن الإشكال معه باق لأنه إذا سماه اللّه بذلك وحكم به عليه فلو لم يأت المكلف به لا نقلب خبر اللّه الصدق كذباً وعلمه جهلًا، وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال، فكان عدم إتيان المكلف به محالًا وإتيانه به واجباً وهذا عين الجبر الذي تفرون منه وأنه ملاقيكم لا محالة، وهاهنا ينتهي البحث إلى الجوابين المشهورين لهما في هذا المقام وكل عاقل يعلم ببديهة عقله سقوط ذلك، وأما التأويل الثالث وهو التخلية وترك المنع فهذا إنما يسمى إضلالًا إذا كان الأولى والأحسن بالوالد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد أن يمنعه عن ذلك فأما إذا كان الولد بحيث لو منعه والده عن ذلك لوقع في مفسدة أعظم من تلك المفسدة الأولى لم يقل أحد أنه أفسد ولده وأضله، وهاهنا الأمر بخلاف ذلك لأنه تعالى لو منع المكلف جبراً عن هذه المفسدة لزمت مفسدة أخرى أعظم من الأولى، فكيف يقال إنه تعالى أفسد المكلف وأضله بمعنى أنه ما منعه عن الضلال مع أنه لو منعه لكانت تلك المفسدة أعظم وأما التأويل الرابع فقد أعترض القفال عليه فقال : لا نسلم بأن الضلال جاء بمعنى العذاب أما قوله تعالى : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر : ٤٧] فيمكن أن يكون المراد في ضلال عن
الحق في الدنيا وفي سعر : أي في عذاب جهنم في الآخرة ويكون قوله : يَوْمَ يُسْحَبُونَ من صلة سعر وأما قوله تعالى :
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ إلى قوله : كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ فمعنى قوله ضلوا عنا أي بطلوا فلم ينتفع بهم في هذا اليوم الذي كنا نرجو شفاعتهم فيه ثم قوله : كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قد يكون على معنى كذلك يضل اللّه أعمالهم أي يحبطها يوم القيامة، ويحتمل كذلك يخذلهم اللّه تعالى في الدنيا فلا يوفقهم لقبول الحق إذ ألفوا الباطل وأعرضوا عن التدبر، فإذا خذلهم اللّه تعالى وأتوا يوم القيامة فقد بطلت أعمالهم التي كانوا يرجون الانتفاع بها في الدنيا، وأما / التأويل الخامس : وهو الإهلاك فغير لائق بهذا الموضع لأن قوله تعالى : وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً يمنع من حمل الإضلال على الإهلاك. وأما التأويل السادس : وهو أنه يضله عن طريق الجنة فضعيف لأنه تعالى قال : يُضِلُّ بِهِ أي يضل بسبب استماع هذه الآيات والإضلال عن طريق الجنة ليس بسبب استماع هذه الآيات بل بسبب إقدامه على القبائح فكيف يجوز حمله عليه. وأما التأويل السابع : وهو أن قوله : يُضِلَّهُ


الصفحة التالية
Icon