مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٨٥
والكواكب / كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة اللّه ومحبته ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هم الملائكة المقربون ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السموات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة. فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة وإن كانت شريرة فهم الشياطين، فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع؟ أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة، ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة، ومن الناس من ذكر في ذلك وجوهاً عقلية اقناعية ولنشر إليها. أحدها : أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتاً، فنقول القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة فإن الحي إما أن يكون ناطقاً وميتاً معاً وهو الإنسان، أو يكون ميتاً ولا يكون ناطقاً وهو البهائم، أو يكون ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك، ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق، وأوسطها الناطق الميت، وأشرفها الناطق الذي ليس بميت، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها، فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى، وثانياً : أن الفطرة تشهد بأن عالم السموات أًرف من هذا العالم السفلي وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها فيبعد في العقل أن تحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني، ولا تحصل ألبتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف.
وثالثها : أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة، وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة، فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها، وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها، وأما الدلائل النقلية فلا نزاع ألبتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة، بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : في شرح كثرتهم :
قال عليه الصلاة والسلام :«أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع»
وروي أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثالثة، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات / العرش التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا اللّه. ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام. والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام. وهم كلهم سامعون مطيعون لا يفترون مشتغلون بعبادته سبحانه وتعالى. رطاب الألسن بذكره وتعظيمه يتسابقون في ذلك مذ خلقهم، لا يستكبرون عن عبادته