مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣١٨
والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عن ذلك الشاكر، واللّه تعالى يعامل المطيعين / بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند اللّه تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل اللّه تعالى، ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق اللّه تعالى أنا نشكر اللّه على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلا بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه، لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح قال اللّه تعالى : وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران : ١٨٨] فعجز الحاضرون عن الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرس وقال : إنما نمدح اللّه تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، واللّه تعالى يشكرنا على فعل الإيمان قال تعالى : فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً قال فضحك جعفر بن حرب وقال : صعب المسألة فسهلت.
واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر، ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجبا للسعادة التامة صار العبد أيضا مشكورا ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الثانية : اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا، أو تحصيل خيرات الآخرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحدا منهما، هذا هو التقسيم الصحيح، أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط، فاللّه تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية.
أما القسم الثالث : فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحا أو مرجوحا، أو يكون الطلبان متعادلين.
أما القسم الأول : وهو أن يكون طلب الآخرة راجحا، فهل يكون هذا العمل مقبولا عند اللّه تعالى فيه بحث، يحتمل أن يقال : إنه غير مقبول لما
روي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حكى عن رب العزة أنه قال :«أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه»
وأيضا فطلب رضوان اللّه إما أن يقال : إنه كان سببا مستقلا بكونه باعثا على ذلك الفعل أو داعيا إليه، وإما أن يقال : ما كان كذلك، فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء، لأن الحكم إذا حصل مسندا إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان اللّه تعالى، لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايرا لكل / واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايرا لطلب رضوان اللّه تعالى فوجب أن يكون مقبولا، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولا، وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلب الدنيا راجحا فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكلية عن طلب الآخرة.
وأما القسم الرابع : وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من


الصفحة التالية
Icon