مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣١٩
القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا؟ فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول، والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث، واللّه أعلم.
ثم قال تعالى : كُلًّا أي كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه : نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره، وكل من حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك.
ثم قال تعالى : انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وفيه قولان :
القول الأول : المعنى : انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف : ٣٢] وقال في آخر سورة الأنعام : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الأنعام : ١٦٥].
ثم قال : وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا والمعنى : أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.
القول الثاني : أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون / الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان : ٢٤].
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٢]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان وجه النظم فنقول : إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة اللّه وهم أهل الثواب ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة : أولها : إرادة الآخرة. وثانيها : أن يعمل عملا ويسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة. وثالثها : أن يكون مؤمنا لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال : لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعيا سعيا يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.


الصفحة التالية
Icon