مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٢٠
المسألة الثانية : قال المفسرون : هذا في الظاهر خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلم، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق : ١] ويحتمل أيضا أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل : أيها الإنسان لا تجعل مع اللّه إلها آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله :
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إلى قوله : إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الإسراء : ٢٣] وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.
المسألة الثالثة : معنى الآية أن من أشرك باللّه كان مذموما مخذولا، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه : الأول : أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان. الثاني : أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من اللّه تعالى، فمن أشرك باللّه فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير اللّه تعالى، مع أن الحق أن كلها من اللّه، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من اللّه، فقد قابل إحسان اللّه تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكا للّه تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدوما بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين. وذلك عين الخذلان.
الثالث : أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان / واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحا منصورا. واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : القعود المذكور في قوله : فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا فيه وجوه : الأول : أن معناه :
المكث أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب : هو قاعد بأسوأ حال معناه : المكث سواء كان قائما أو جالسا. الثاني : أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه. الثالث : أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالسا قاعدا عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على هدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات. والقعود كناية عن العجز والضعف.
المسألة الخامسة : قال الواحدي : قوله :(فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهى وانتصابه بإضمار «أن» كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك، والتقدير : لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف وإنما سماه النحويون جوابا لكونه مشابها للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع اللّه إلها آخر قعدت مذموما مخذولا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٣]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)