مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٢٣
المسألة الثانية : قوله : وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال أهل اللغة : تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا اللّه وأن تحسنوا، أو يقال : وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال صاحب «الكشاف» : ولا يجوز أن تتعلق الباء في بِالْوالِدَيْنِ بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في «البسيط» : الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر، وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه، والمثال المذكور ليس كذلك.
المسألة الثالثة : قال القفال : لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة، وبحرف إلى أخرى، وكذلك الإساءة، يقال : أحسنت به وإليه وأسأت به وإليه قال اللّه تعالى : وَقَدْ أَحْسَنَ بِي [يوسف : ١٠٠] وقال القائل :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين :
أحدها : أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء : ١٩] ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من / أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة. وثانيها : أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة اللّه تعالى، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة. وثالثها : أنه تعالى لم يقل : وإحسانا بالوالدين، بل قال :
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام. ورابعها : أنه قال : إِحْساناً بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم، والمعنى : وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.
ثم قال تعالى : إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ «إما» لفظة مركبة من لفظتين : إن، وما. أما كلمة إن فهي للشرط، وأما كلمة (ما) فهي أيضا للشرط كقوله تعالى : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة : ١٠٦] فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول : إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع، لأن قول القائل : الشيء إما كذا وإما كذا، فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد؟
وجوابه : أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع واللّه أعلم.