مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٣٣
الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة، واللّه أعلم بمراده.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
[في قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] هذا هو النوع الثاني مما نهى اللّه عنه في هذه الآية، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن أكبر الكبائر بعد الكفر باللّه القتل، فما السبب في أن اللّه تعالى بدأ أولا بذكر النهي عن الزنا وثانيا بذكر النهي عن القتل.
وجوابه : أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر اللّه تعالى الزنا أولا ثم ذكر القتل ثانيا.
المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، والحل إنما يثبت بسبب عارضي، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى اللّه عن القتل مطلقا بناء على حكم الأصل، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال : إِلَّا بِالْحَقِّ / فنفتقر هاهنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم، والذي يدل عليه وجوه : الأول : أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله : ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : ٧٨] وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة : ١٨٥].
«و لا ضرر ولا ضرار».
الثاني :
قوله عليه السلام :«الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب».
الثالث : أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : ٥٦] ولقوله عليه السلام :«حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا»
والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل. الرابع : أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى : وَلا تُفْسِدُوا [الأعراف : ٨٥]. الخامس : أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح وهو محال. السادس : أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانا عاقلا حكمنا فيه بتحريم قتله، وما لم نعرف شيئا زائدا على كونه إنسانا لم نحكم فيه بحل دمه، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم. وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فقوله : وَلا تَقْتُلُوا نهي وتحريم، وقوله : حَرَّمَ اللَّهُ إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال : إِلَّا بِالْحَقِّ ثم هاهنا طريقان :
الطريق الأول : أن مجرد قوله : إِلَّا بِالْحَقِّ مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية : ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا عند القصاص، وعلى هذا


الصفحة التالية
Icon