مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٤٤
مَرَحاً
[الإسراء : ٣٧] وهو الرابع والعشرون، ثم قال : وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها اللّه تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله : لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الإسراء : ٢٢] وخاتمتها قوله :
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.
إذا عرفت هذا فنقول : هاهنا فوائد :
الفائدة الأولى : قوله : ذلِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما / سماها بهذا الاسم لوجوه : أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيا إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء : ٢٢١، ٢٢٢]. وثانيها :
أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة من هذا الاعتبار. وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس : أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام : أولها : وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الإسراء : ٢٢] قال تعالى : وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف : ١٤٥].
والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيها على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوما مدحورا، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموما معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموما، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموما، وآخره أن يصير ملوما، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى : وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الفرقان : ٦٩] فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا واللّه أعلم بمراده.
وأما قوله : أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة