مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٤٨
المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضا دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
والوجه الثاني : هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل، ولهذا المعنى قال تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف : ١٠٥] فكان المراد من قوله : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هذا المعنى.
والوجه الثالث : أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادرا على الحشر والنشر فكان المراد ذلك. وأيضا فإنه تعالى قال لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم : قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال : تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه، بل نقول : إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل، والنبوة والمعاد، فكان المراد من قوله : وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله : إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فذكر الحليم والغفور هاهنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرما إذا كان المراد من تلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل. أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح اللّه بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرما ولا ذنبا، وإذا لم يكن ذلك جرما ولا ذنبا لم يكن قوله : إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً لائقا بهذا الموضع، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه.
واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح اللّه بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعا آخر من التسبيح وقالوا : إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح اللّه، فإذا كان كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا، فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له من التسبيح، وقالوا أيضا : إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح، وإذا كان كونه جمادا لم يمنع من كونه مسبحا فكسره كيف يمنع من ذلك، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قوله : تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح / إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه اللّه تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم : سبحان اللّه، فهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله : تُسَبِّحُ لفظا واحدا قد استعمل في الحقيقة والمجاز معا، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور واللّه أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ إلى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)


الصفحة التالية
Icon