مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٤٩
[في قوله تعالى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً] اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قولان :
القول الأول : أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا قرأ القرآن على الناس.
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان /، عن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار،
وعن أسماء أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان جالسا ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهي تقول :
مذمما أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا فقال أبو بكر : يا رسول اللّه معها فهر أخشاها عليك، فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية فجاءت فما رأت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام وقالت : إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك.
وروى ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى اللّه عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان : أني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر، فنزلت هذه الآية، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الكهف : ٥٧] وفي النحل : أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النحل : ١٠٨] وفي حم الجاثية : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية : ٢٣] إلى آخر الآية فكان اللّه تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين، وهو المراد من قوله تعالى : جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وفيه سؤال : وهو أنه كان يجب أن يقال حجابا ساترا.
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه اللّه تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلّى اللّه عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستورا من هذا الوجه، احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن اللّه تعالى خلق في عينيه مانعا يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا : إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان حاضرا وكانت حواس الكفار سليمة، ثم إنهم