مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٥٧
أن نشتغل بعبادة اللّه تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد اللّه وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل واللّه تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وابتغاء الوسيلة إلى اللّه تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة.
إذا ثبت هذا فنقول : إن قوما عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل : إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيرا، وقيل : إن قوما عبدوا نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس : كل موضع في كتاب اللّه تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر، وإيصال المنفعة، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزيز لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.
ولقائل أن يقول : هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم؟ فإن قلتم : لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.
قلنا : معارضة لذلك قد نرى أيضا أن المسلمين يتضرعون إلى اللّه تعالى فلا تحصل الإجابة، والمسلمون يقولون : إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من اللّه تعالى لا من الملائكة، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من اللّه تعالى، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.
والجواب : أن الدليل تام كامل، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة / عباد اللّه وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالا منهم.
وإذا ثبت هذا فنقول : كمال قدرة اللّه تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة اللّه تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون اللّه مستحقا للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون الحجة العقلية على أنه لا موجد إلا اللّه تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا اللّه تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا اللّه تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا اللّه تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما جوزوا كون العبد موجدا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الأحياء والإماتة وخلق الجسم. وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله : فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال : حوله فتحول.
ثم قال تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وفيه قولان : الأول : قال الفراء قوله :