مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٨٠
والجواب عن الأول : أن / كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلانا لا يفهم منه أنه ضربه، والجواب عن الثاني :
أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك هاهنا قوله : وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ معناه أنه حصل تثبيت اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون، والجواب عن الثالث : أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة : ٤٤- ٤٦] ومنها قوله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : ٦٥] ومنها قوله : وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب : ٤٨] واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق اللّه تعالى بقوله :
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت اللّه تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صلّى اللّه عليه وسلم كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين اللّه تعالى أن بقاءه معصوما عن الكفر والضلال لم يحصل إلا بإعانة اللّه تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى.
قالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أن كونه نبيا من عند اللّه تعالى يمنع من ذلك، والجواب : لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله اللّه يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور، فنقول : لو لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضي قد حصل في حق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأن هذا المانع الذي فعله اللّه منع ذلك المقتضي من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى واللّه أعلم.
المسألة الخامسة : قال القفال رحمه اللّه : قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة، ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل اللّه تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون : ١، ٢] وقوله : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم : ٩] وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل اللّه تعالى : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه : ١٣١] ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل اللّه تعالى قوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام : ٥٢] فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب / وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات. واللّه أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٦ إلى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)