مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٨١
في هذه الآية قولان : الأول : قال قتادة : هم أهل مكة هموا بإخراج النبي صلّى اللّه عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا، ولكن اللّه منعهم من إخراجه، حتى أمره اللّه بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلّى اللّه عليه وسلم من مكة حتى بعث اللّه عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد. والقول الثاني : قال ابن عباس : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول اللّه فاللّه مانعك منهم. فعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين اللّه فنزلت هذه الآية فرجع.
فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، والأرض في قوله : لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة : ٣٣] يعني من مواضعهم وقوله : فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف : ٨٠] يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة، فإن قيل قال اللّه تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد : ١٣] يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية : وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها فكيف [يمكن ] الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة؟ قلنا : إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر اللّه تعالى، فزال التناقض. ثم قال تعالى : وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم (خلفك) بفتح الخاء وسكون اللام / والباقون خِلافَكَ زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله : بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة : ٨١] وقال الشاعر :
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب «الكشاف» قرئ لا يَلْبَثُونَ وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذا، فإن قيل : ما وجه القراءتين؟ قلنا : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله : إذا لا يلبثوا عطف على جملة قوله :
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ثم قال تعالى : سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة اللّه أن يهلكهم فقوله : سُنَّةَ نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال : وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا والمعنى أن ما أجرى اللّه تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمرا ثابتا له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبدا على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت


الصفحة التالية
Icon