مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٨٦
كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلا فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقا حاذقا فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه. إذا عرفت هذا فنقول :
مرض حب الدنيا مستول على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة اللّه تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس، وقل من يقبله وينقاد له. لا جرم [أن ] الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعا واللّه أعلم بأسرار كلامه.
أما قوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث :
البحث الأول : التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فَتَهَجَّدْ بِهِ أي بالقرآن كما قال : قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى قوله : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل : ٢- ٤].
البحث الثاني : قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال :/ أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد :
هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال : نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجدا لإلقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لإلقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم. ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه. وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويحتمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلبا لذلك الهجود فسمي تهجدا لهذا السبب. وفيه وجه ثالث : وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال :
أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجودا ورقادا فلا يبعد أنه سمي تهجدا لهذا السبب.
البحث الثالث : قوله :(من) في قوله : وَمِنَ اللَّيْلِ لا بد له من متعلق والفاء في قوله : فَتَهَجَّدْ لا بدله من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله : بِهِ أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.
البحث الرابع : معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ


الصفحة التالية
Icon