مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٢٦
بكونه كذبا، مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه باطلا، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقا أو لم يعلم، ثم قال تعالى : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وفيه مباحث :
البحث الأول : المقصود منه أن يقال للرسول : لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه. والغرض تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عنه.
البحث الثاني : قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدة وجده بالشيء. وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد يقال : بخعت لك نفسي أي جهدتها، وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها أنها ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى : باخِعٌ نَفْسَكَ أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا : قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي.
البحث الثالث : قوله : عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية، فإذا كان موته قريبا من موت الأول كان موته حاصلا حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان.
البحث الرابع : قوله، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ المراد بالحديث القرآن. قال القاضي : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول : إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة.
البحث الخامس : قوله : أَسَفاً الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله : غَضْبانَ أَسِفاً في سورة الأعراف [١٥٠] وعند قوله : يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف : ٨٤] وفي انتصابه وجوه. الأول : أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف. الثاني : يجوز أن يكون مفعولا له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير. والثالث : قال الزجاج : أَسَفاً منصوب لأنه مصدر في موضع الحال.
البحث السادس : الفاء في قوله : فَلَعَلَّكَ جواب الشرط وهو قوله : إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا قدم عليه ومعناه التأخير.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧ إلى ٨]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
[في قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القاضي : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضا يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلي أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.


الصفحة التالية
Icon