مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٣٨
المدعي.
«و الجواب» عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : ١٣] وكما قال إبليس : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف : ١٧] وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحا في كونها على خلاف العادة.
المسألة السابعة : في الفرق بين الكرامات والاستدراج، اعلم أن من أراد شيئا فأعطاه اللّه مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيها عند اللّه تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراما للعبد وقد يكون استدراجا له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن، أحدها : الاستدراج قال اللّه تعالى : سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف : ١٨٢] ومعنى الاستدراج أن يعطيه اللّه كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعدا من اللّه وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه اللّه مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن اللّه درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج. وثانيها : المكر قال تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف : ٩٩]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران : ٥٤] وقال : وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل : ٥٠]. وثالثها : الكيد قال تعالى : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء : ١٤٢] وقال : يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة : ٩]. ورابعها : الإملاء قال تعالى : وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران : ١٧٨]. وخامسها :/ الإهلاك قال تعالى : حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ [الأنعام : ٤٤] وقال في فرعون : وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص : ٣٩، ٤٠] فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات. فنقول : إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من اللّه تعالى أشد وحذره من قهر اللّه أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقا لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر اللّه وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجا لا كرامة. فلهذا المعنى قال المحققون : أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة اللّه إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء. والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه :
الحجة الأولى : أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذا الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقا لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا


الصفحة التالية
Icon