مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٣٩
عين الجهل لأن الملائكة قالوا : لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة : ٣٢] وقال تعالى : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام : ٩١] وأيضا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق.
الحجة الثانية : أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور.
الحجة الثالثة : أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلا ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال اللّه تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل. رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر : ١٠] فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى [ذكره ] عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول.
الحجة الرابعة : أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة اللّه فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردودا ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم مناقب نفسه / وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي.
الحجة الخامسة : أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيما ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة : ٥] وقيل أيضا في حقهم : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران : ١٩] فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد.
الحجة السادسة : أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل، ولهذا المعنى
قال الخليل صلوات اللّه عليه :«١» أما إليك فلا، فالاستغناء بالفقير فقر والتقوى بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص،
فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته. أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول.
الحجة السابعة : أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون، قال إبليس : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف : ١٢] وقال فرعون : أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف : ٥١] وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا
قال عليه السلام :«ثلاث مهلكات، وختمها بقوله : وإعجاب المرء بنفسه».

(١) هذا من خطابه لجبريل عليه السلام فإنه
لما ألقي في النار سأله جبريل فقال : ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام أما إليك فلا!
[.....]


الصفحة التالية
Icon