مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٥٨
لقد كلفني شططا وأمرا خائبا فرطا
أي مضيعا، فقوله وكان أمره فرطا معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصا بإيقاع التفريط والتقصير فيه، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر اللّه التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة، والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر اللّه والإعراض عن غير ذكر اللّه فقال : مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر اللّه تعالى والإقبال على غير اللّه وهو قوله : أَغْفَلْنا قَلْبَهُ واتَّبَعَ هَواهُ ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء،
روى أبو سعيد الخدري رضى اللّه عنه قال : كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضا من العرى وقارئ يقرأ القرآن فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال : ماذا كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول اللّه كان واحد يقرأ من كتاب اللّه ونحن نستمع، فقال عليه السلام :«الحمد للّه الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم» ثم جلس وسطنا وقال :«أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه. الأول : أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك، قال بعده : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند اللّه فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة. الوجه الثاني : في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند اللّه، والحق الذي / جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا. والوجه الثالث : في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند اللّه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن اللّه تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار، فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل. أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر، وهذا ضرر عظيم، قلنا : أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح، فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة قوله تعالى : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره. فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن، ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت : هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضا


الصفحة التالية
Icon