مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٥٩
يدل له، فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له. إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقا بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال. فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارات إلى قصد واختيار يخلقه اللّه تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل، فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل، وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه، فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل، ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة. فالإنسان مضطر في صورة مختار، ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه اللّه هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال : فإن قلت إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري. وأجاب عنه، وقال : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة، وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل. بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة، وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من اللّه تعالى.
المسألة الثالثة : قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه فوائد :
الفائدة الأولى : الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال.
الفائدة الثانية : أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب اللّه كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير.
الفائدة الثالثة : أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم، كما قال تعالى : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء : ٧]، واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح. أما الوعيد فقوله تعالى : إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعند ما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين، فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه. فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام نارا وهي الجحيم، ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين : الصفة الأولى : قوله :
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب. وقال بعضهم : المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه اللّه في قوله :
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات : ٣٠] وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط. والصفة الثانية : لهذه النار قوله : وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ
قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت
وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه دخل بيت المال


الصفحة التالية
Icon